سئل الشيخ عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم
سئل الشيخ ـ رحمه اللّه ـ عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث اللّه تعالى فيه: على معنى أنه وسيلة من وسائل اللّه تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث اللّه تعالى فيه.
وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهى برسولك ! أو أستغيث برسولك عندك، أن تغفر لى، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم.
قال: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص، قديما وحديثا، وأنه يصح إسنادها للمخلوقين، وأنه يستغاث بهم على سبيل التوسل، وأنها مطلقة على كل من سأل تفريج الكربة بواسطة التوسل به، وأن ذلك صحيح في أمر الأنبياء والصالحين.
قال: وفيما رواه الطبرإني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بعض الصحـابة ـ رضي اللّه عنهـم ـ قال: استغيثوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث باللّه). أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفي عن نفسه أنه يستغاث به، ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد البارى بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك، ونجوز أن نطلق أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالح يستغاث به، يـعنى في كـل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة، وأن القـائل لا يستـغاث به متنقصـا له، وأنه كافر بذلك، لكنه يعذر إذا كان جاهلا، فإذا عرف معنى الاستغاثة ثم أصر على قوله بعد ذلك صار كافرًا
والتوسل به استغاثة به كما تقدم، فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم والصـالح، في كـــل ما يستغاث به اللّه تعـالى؟ وهـل يجوز إطلاق ذلك؟ كما قال القائل، وهــل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصـالح أو غيرهما إلى اللّه تعالى في كل شىء استغاثة بذلك المتوسل به؟ كما نقله هذا القائل عن جميع اللغات، وسواء كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح استغـاثة بـه، أو لم يكـن، فهل يعـرف أن أحدا من العلمـاء قال: إنه يجوز التوسل إلى اللّه بكل نبي وصالح؟ فقد أفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه المشهورة: أنه لا يجوز التوسل إلى اللّه تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، فهل قال أحد خلاف ما أفتى به الشيخ المذكور ؟
وبتقدير أن يكون في المسألة خلاف، فمن قال: لا يتوسل بسائر الأنبياء والصالحين، كما أفتى الشيخ عز الدين؟ هل يكفر كما كفره هذا القائل؟ ويكون ما أفتى به الشيخ كفرًا، بل نفس التوسل به لو قال قائل: لا يتوسل به، ولا يستغاث به، إلا في حياته وحضوره، لا في موته ومغيبه، هل يكون ذلك كفرًا؟ أو يكون تنقصا ؟
ولو قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى لا يستغاث فيه إلا باللّه، أى: لا يطلب إلا من اللّه تعالى هل يكون كفرًا، أو يكون حقا؟ وإذا نفي الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمرًا من الأمور لكونه من خصائص الربوبية، هل يحرم عليه أن ينفيه عنه أم يجب، أم يجوز نفيه؟ أفتونا ـ رحمكم اللّه ـ بجواب شاف كاف، موفقين مثابين ــ إن شاء اللّه تعالى.
الجواب :
الحمد للّه رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشىء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه.
ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي، هو استغاثة به، بل العامة الذي ن يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من اللّه؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
وفي سنن أبى داود: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع باللّه عليك، ونستشفع بك على اللّه، فقال: (شأن اللّه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه).
فأقره على قوله: نستشفع بك على اللّه، وأنكر عليه قوله: نستشفع باللّه عليك.
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب.
وقول القائل: إن من توسل إلى اللّه بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بنى آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء اللّه الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.
والتوسل إلى اللّه بغير نبينا صلى الله عليه وسلم ـ سواء سُمِّىَ أو لم يُسَمَّ ـ لا نعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه حديث في السنن، رواه النسائي والترمذى وغيرهما: أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني أصبت في بصرى فادع اللّه لى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللّهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد، إني أتَشَفَّع بك في ردّ بَصَرى. اللّهم شَفِّع نبيك في)، وقال: (فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك) فرد اللّه بصره. فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكر عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ لما قاله: كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقد ذكر عمر ـ رضي الله عنه ـ :أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى اللّه، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعًا لهم، داعيا لهم؛ ولهذا قال في حديث الأعمى: اللّهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل اللّه أن يشفعه فيه.
والثاني: أن التوسل يكون في حياته، وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها، ونحو ذلك. واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم: هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.
وأما من قال: إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما).
وأما من قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشى: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل اللّّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه).
وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به ، من نفي، وإثبات، وعلىنا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذين كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، واللّه أعلم
وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهى برسولك ! أو أستغيث برسولك عندك، أن تغفر لى، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم.
قال: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص، قديما وحديثا، وأنه يصح إسنادها للمخلوقين، وأنه يستغاث بهم على سبيل التوسل، وأنها مطلقة على كل من سأل تفريج الكربة بواسطة التوسل به، وأن ذلك صحيح في أمر الأنبياء والصالحين.
قال: وفيما رواه الطبرإني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بعض الصحـابة ـ رضي اللّه عنهـم ـ قال: استغيثوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث باللّه). أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفي عن نفسه أنه يستغاث به، ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد البارى بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك، ونجوز أن نطلق أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالح يستغاث به، يـعنى في كـل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة، وأن القـائل لا يستـغاث به متنقصـا له، وأنه كافر بذلك، لكنه يعذر إذا كان جاهلا، فإذا عرف معنى الاستغاثة ثم أصر على قوله بعد ذلك صار كافرًا
والتوسل به استغاثة به كما تقدم، فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم والصـالح، في كـــل ما يستغاث به اللّه تعـالى؟ وهـل يجوز إطلاق ذلك؟ كما قال القائل، وهــل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصـالح أو غيرهما إلى اللّه تعالى في كل شىء استغاثة بذلك المتوسل به؟ كما نقله هذا القائل عن جميع اللغات، وسواء كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح استغـاثة بـه، أو لم يكـن، فهل يعـرف أن أحدا من العلمـاء قال: إنه يجوز التوسل إلى اللّه بكل نبي وصالح؟ فقد أفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه المشهورة: أنه لا يجوز التوسل إلى اللّه تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، فهل قال أحد خلاف ما أفتى به الشيخ المذكور ؟
وبتقدير أن يكون في المسألة خلاف، فمن قال: لا يتوسل بسائر الأنبياء والصالحين، كما أفتى الشيخ عز الدين؟ هل يكفر كما كفره هذا القائل؟ ويكون ما أفتى به الشيخ كفرًا، بل نفس التوسل به لو قال قائل: لا يتوسل به، ولا يستغاث به، إلا في حياته وحضوره، لا في موته ومغيبه، هل يكون ذلك كفرًا؟ أو يكون تنقصا ؟
ولو قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى لا يستغاث فيه إلا باللّه، أى: لا يطلب إلا من اللّه تعالى هل يكون كفرًا، أو يكون حقا؟ وإذا نفي الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمرًا من الأمور لكونه من خصائص الربوبية، هل يحرم عليه أن ينفيه عنه أم يجب، أم يجوز نفيه؟ أفتونا ـ رحمكم اللّه ـ بجواب شاف كاف، موفقين مثابين ــ إن شاء اللّه تعالى.
الجواب :
الحمد للّه رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشىء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه.
ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي، هو استغاثة به، بل العامة الذي ن يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من اللّه؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
وفي سنن أبى داود: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع باللّه عليك، ونستشفع بك على اللّه، فقال: (شأن اللّه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه).
فأقره على قوله: نستشفع بك على اللّه، وأنكر عليه قوله: نستشفع باللّه عليك.
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب.
وقول القائل: إن من توسل إلى اللّه بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بنى آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء اللّه الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.
والتوسل إلى اللّه بغير نبينا صلى الله عليه وسلم ـ سواء سُمِّىَ أو لم يُسَمَّ ـ لا نعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه حديث في السنن، رواه النسائي والترمذى وغيرهما: أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني أصبت في بصرى فادع اللّه لى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللّهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد، إني أتَشَفَّع بك في ردّ بَصَرى. اللّهم شَفِّع نبيك في)، وقال: (فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك) فرد اللّه بصره. فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكر عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ لما قاله: كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقد ذكر عمر ـ رضي الله عنه ـ :أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى اللّه، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعًا لهم، داعيا لهم؛ ولهذا قال في حديث الأعمى: اللّهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل اللّه أن يشفعه فيه.
والثاني: أن التوسل يكون في حياته، وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها، ونحو ذلك. واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم: هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.
وأما من قال: إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما).
وأما من قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشى: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل اللّّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه).
وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به ، من نفي، وإثبات، وعلىنا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذين كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، واللّه أعلم