aring

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اسلاميات


    تفسير سورة الكهف الجزء الثانى

    عاشقة الجنة
    عاشقة الجنة


    عدد المساهمات : 144
    نقاط : 304
    تاريخ التسجيل : 10/07/2009

    تفسير سورة الكهف الجزء الثانى Empty تفسير سورة الكهف الجزء الثانى

    مُساهمة  عاشقة الجنة الخميس ديسمبر 17, 2009 5:36 am

    )مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف:51)



    قوله تعالىSmileمَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } يعني أن هؤلاء الذين اتخذهم الناس أولياء من دون الله ليس لهم حق الكون وبالتدبير، فالله عز وجل ما أشهدهم خلق السموات والأرض؛ لأن السموات والأرض مخلوقتان قبل الشياطين.

    ) وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) يعني ما أشهدت بعضَهم خلق بعض. فكيف تتخذونهم أولياء وهم لا شاركوا في الخلق ولا خلقوا شيئاً بل ولا شاهدوه، وفي هذه الجملة دليل على أن كل من تكلم في شيء من أمر السموات والأرض، بدون دليل شرعي أو حسي فإنه لا يُقبل قوله، فلو قال: إن السموات تكونت من كذا والأرضُ تكونت من كذا وبعضهم يقول: الأرض قطعة من الشمس وما أشبه ذلك من الكلام الذي لا دليل على صحته.

    فإننا نقول له: إن الله ما أشهدك خلق السموات والأرض، ولن نقبل منك أيَّ شيء من هذا، إلاَّ إذا وجدنا دليلاً حسياً لا مناص لنا منه، حينئذٍ نأخذ به؛ لأن القرآن لا يعارض الأشياء المحسوسة.

    ) وَمَا كُنْتُ ) الضمير في { كُنْتُ} يعود إلى الله.

    ) كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (أي: أنصاراً ينصرون ديني، لماذا؟ لأن المضل يصرف الناس عن الدين، فكيف يتخذ الله المضلين عضدا، وهو إشارة إلى أنه لا ينبغي لك أيها الإنسان أن تتخذ المضلين عضدا تنتصر بهم، لأنهم لن ينفعوك بل سيضرونك، إذاً لا تعتمد على السفهاء ولا تعتمد على أهل الأهواء المنحرفة؛ لأنه لا يمكن أن ينفعوك بل هم يضرونك، فإذا كان الله لم يتخذ المضلين عضدا فنحن كذلك لا يليق بنا أن نتخذ المضلين عضدا؛ لأنهم لا خير فيهم ، وفي هذا النهي عن بطانة السوء وعن مرافقة أهل السوء، وأن يحذر الإنسان من جلساء السوء.

    ***

    )وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)

    (الكهف:52)



    قوله تعالى: {)وَيَوْمَ يَقُولُ } أي اذكر يوم يقول: { نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } فينادونهم ولا يستجيبون لهم، وهذا يكون يوم القيامة، يقال لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم أولياء شفعاء.

    ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) فهذه الأصنام لا تنفع أهلها بل تُلقى هي وعابدوها في النار، قال الله :

    (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) (الانبياء:98)

    ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق هو مكان الهلاك، يعني أننا جعلنا بينهم حائلاً مهلكاً حيث لا يمكن أن يذهبوا إلى شركائهم، ولا أن يأتي شركاؤهم إليهم، أرأيت لو كان بينك وبين صاحبك خندق من نار هل يمكن أن تذهب إليه لتنصره، أو أن يأتي إليك لينصرك؟

    الجواب: لا يمكن، هؤلاء يجعل الله بينهم يوم القيامة { مَوْبِقاً }.

    ***

    )وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) (الكهف:53)



    قوله تعالى: { )وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ } المجرمون يعني الكافرين، كما قال عز وجل : { إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة: 22 .( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا) [فظنوا] أي أيقنوا: { مُوَاقِعُوهَا } والظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [البقرة: 46] ، أي: يوقنون أنهم ملاقو الله، وإلاَّ فالظن الذي هو ترجيح أحد الأمرين المشكوك فيهما لا يكفي في الإيمان.

    ( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً ) يعني لم يجدوا مكانا ينصرفون عنها إليه، وهذه الجملة معطوفة على (رأى) وليست داخلة تحت قوله ظنوا، لأنه لو كان داخلاً في الظن لقال "ولن"، يعني أنهم لما رأوْها وظنوا أنهم مواقعوها لم يجدوا عنها مصرفاً أي مكاناً ينصرفون إليه لينجوا به منها.

    ***

    )وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54)



    قوله تعالى: { صَرَّفْنَا } يعني نوعنا، تصريف الشيء يعني تنويعه كما قال تعالى: { وتصريف الرياح} [البقرة: 164] ، أي تنويعها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، إذاً { صَرَّفْنَا } أي نوعنا في هذا القرآن من كل مثل، وهكذا الواقع. فكلام الله صدق، أمثال القرآن تجدها متنوعة فتارة لإثبات البعث، وتارة لإثبات وحدانية الله، وتارة لبيان حال الدنيا، وتارة لبيان حال الآخرة، وتارة تكون مطولة، وتارة مختصرة، فهي أنواع. كل نوع في مكانه من البلاغة والفصاحة.

    ( مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)أي من كل جنس وصنف، فهذا مثل لكذا وهذا مثل لكذا، لماذا؟

    الجواب: من أجل أن يتذكر الناس ويتعظوا ويعقلوها. ولكن يوجد من الناس من لا يتعظ بهذه المثل، بل على العكس، ولهذا قال: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }، قوله: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ }، بعض المفسرين يقول: { َ الْأِنْسَانُ } يعني الكافر، ولكن في هذا نظر؛ لأنه لا دليل على تخصيصه بالكافر، بل نقول { الْأِنْسَانُ } من حيث الإنسانية.

    ( شَيْءٍ جَدَلاً ) يعني أكثر ما عنده، ولكن من حيث الإيمان فالمؤمن لا يكون مجادلاً، بل يكون مستسلماً للحق ولا يجادل فيه، ولهذا قال عبد الله بن مسعود : "ما أوتي قوم الجدل إلاَّ ضلوا" وتدبر حال الصحابة رضي الله عنهم تجد أنهم مستسلمون غاية الاستسلام لما جاءت به الشريعة، ولا يجادلون ولا يقولون لم؟ ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم"[32] هل قال الصحابة "لِمَ"؟ بل قالوا سمعنا وأطعنا، ما جادلوا، وكذلك في بقية الأوامر، لكن الإنسان من حيث هو إنسان أكثر شيء عنده الجدل. إذاً إذا مر بك مثل هذا في القرآن الكريم { الْأِنْسَانُ } فلا تحمله على الكافر إلا إذا كان السياق يُعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياق يراد به ذلك، صار هذا عاماً يراد به الخاص، لكن إذا لم يكن في السياق ما يعين ذلك فاجعله للعموم، اجعله إنساناً بوصف الإنسانية، والإنسانية إذا غلب عليها الإيمان اضمحل مقتضاها المخالف للفطرة.

    قوله: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } هذا وقع في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وزوجته فاطمة رضي الله عنهما حين جاء إليهما ذات ليلة ووجدهما نائمين فقال: "ألا تصليان"، قال علي : "إنَّ أنفُسَنا بيد الله ولو شاء لأيقظنا"، فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يضرب على فخذه ويقول: { وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }[33] ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أنفسهما بيد الله، والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الفريضة: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"[34] فعذر الناسي والنائم وهو يعلم عليه الصلاة والسلام ذلك ولكنه يريد أن يَحُثَّهُما، وأراد علي رضي الله عنه أن يدفع اللوم عنه وعن زوجه فاطمة رضي الله عنها.

    ***

    )وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) (الكهف:55)



    قوله تعالى: { )وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني ما منع الناس عن الإيمان والاستغفار نقص البيان، فقد ذكر الله أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وكان الواجب على الإنسان إذا ضربت له الأمثال أن يؤمن. لكنه ما منعهم من الإيمان نقصٌ في البيان، فالأمر والحمد لله بين واضح أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية[35] لكنه العناد.

    ولهذا قال جلَّ وعلا: { إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) أي ما ينتظرون إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلاً.

    وقوله: { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ } يعني يطلبون مغفرته، فالمؤمن كثير الاستغفار لربه، والكافر إذا آمن لا بد أن يستغفر الله بما وقع فيه من الذنوب، فإذا آمن واستغفر زال عنه ما كان من الذنوب. قال تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال:38)

    وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } يعني مقابلة ومعاينة ومباشرة، وما هي سنة الأولين؟

    الجواب: هي أخذهم بالعذاب العام، لكن لم يأخذ الله هذه الأمة بعذاب شامل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه ألا يهلك أمَّته بسنة بعامة[36] فأجاب الله دعاءه.

    ***

    )وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (الكهف:56)



    قوله تعالى: { )وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } هذه وظيفة الرسل ما نرسل المرسلين من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم، إلاَّ لهذين الأمرين: مبشرين ومنذرين، يعني ولم نرسلهم من أجل أن يجبروا الناس على الإيمان بل هم مبشرون ومنذرون، يبشرون المؤمنين وينذرون الكافرين.

    ( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) منصوبة على الحال من المرسلين، يعني إلاَّ حال كونهم مبشرين ومنذرين.

    ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) المجادلة هي المخاصمة وسميت المخاصمة مجادلة؛ لأن كل واحد يَجْدُلُ حجته للآخر والجَدْل هو فتل الحبل حتى يشتد ويقوى، هذا أصل المجادلة، إذاً يجادل أي يخاصم، والمخاصمة بالباطل باطلة، مثال ذلك في الرسل يقولون: ) أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)(التغابن: الآية6)، ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً)(المؤمنون: الآية24)، ويجادلون في البعث فيقولون: { من يحي العظام وهى رميم} [يس: 78] ، ويجادلون في الآلهة يقولون: إذا كان المشركون وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، فعيسى عليه السلام من حصب جهنم، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل الله مجادلتهم بعيسى قال الله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى )(الانبياء: الآية101)، ومنهم عيسى ) أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)(الانبياء: الآية101)ويستفاد من الآية أن كل إنسان يجادل من أجل أن يدحض الحق فإن له نصيباً من هذه الآية، يعني أن فيه نصيباً من الكفر والعياذ بالله لأن الكافرين هم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا قال قائل: "الشبهات التي يوردها من يوردها من الناس، كيف يقال إنها باطل وهي شبهة؟".

    فالجواب: إذا كان غرضهم منها أن يُدحضوا الحق، مثل الذين ينكرون حقيقة استواء الله على العرش ويقولون: إنه لو استوى على العرش لكان "جسماً"، فهؤلاء جادلوا بالباطل من أجل أن يدحضوا الحق الذي أثبته الله لنفسه، وأما مسألة أن الله "جسم" أو غير "جسم" فهذه شيء آخر، المهم أنهم أتوا بهذه الكلمة من أجل إدحاض الحق، ونحن لا ننكر عليهم مسألة أنه "جسم أو غير جسم"، ننكر أنهم أنكروا حقيقة الاستواء، وأما مسألة أنه "جسم أو غير جسم" فهذا مبحث آخر، وهو أننا لا نثبت اللفظ "جسم" ولا ننكره، أما المعنى فنقول: إن الله تعالى حق قائم بذاته موصوف بصفاته يفعل ما يشاء، يستوي على عرشه، وينزل إلى السماء الدنيا، وينْزِل ليفصل بين العباد، ويعجب ويفرح ويضحك، المهم أنه كلما رأيت شخصاً يجادل يريد أن يدحض الحق، فله نصيب من هذه الآية.

    ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (( وَاتَّخَذُوا) أي صيروا. { (آيَاتِي) يعني القرآن.

    (وَمَا أُنْذِرُوا ) أي ما أنذروا به من العذاب اتخذوها { هُزُواً } مثال ذلك أن الكفار استهزؤوا لما أخبر الله عز وجل عن شجرة الزقوم )إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (الصافات:64) ، يعني في قعره، فصاروا يضحكون كيف تخرج في أصل الجحيم، وهي شجرة أبعد ما يكون عن النار، النار حارة جافة والشجرة رطبة، فجعلوا يستهزئون ويقولون: هذا من هذيان محمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا ما أنذروا به هزواً والله عز وجل قال: )فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (الصافات:66) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (الواقعة:55) ، يملؤون بطونهم من هذه الزَّقوم ملئاً تاماً ثم تحترق من العطش، فماذا يسقون؟ يسقون ماءً حاراً (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي على ما في بطونهم { مِنَ الْحَمِيمِ }، ومع ذلك يشربون شرباً ليس عادياً بالنسبة إلى البشر، ولكنه شرب الإبل الهيم، العطاش، هذه الشجرة التي يهزؤون بها هي التي يملؤون بها بطونهم في جهنم.

    ***

    )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:57)



    قوله تعالى: { )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ } أي ذكره الواعظ بآيات ربه الكونية، كأخذه الأمم المكذبين، أو الشرعية كالقرآن.

    ( فَأَعْرَضَ عَنْهَا )ولم يقبلها، أي لا أ حد أظلم منه، فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية، وبين الآية التي في أول السورة وهي قوله تعالى: { )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) ونحوها؟

    فالجواب: بأحد وجهين:

    الأول: أن الأفضلية باعتبار ما شاركه في أصل المعنى، فقوله تعالى: { )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } يعني من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها من الذين يُذَكَّرون فيُعرِضون، قد يذكر الإنسان فيعرض، لكن أشد ما يكون أن يذكر بآيات الله ثم يعرض عنها، وفي افتراء الكذب قد يفتري الإنسان الكذب على فلان وفلان، وأعظم ما يكون الافتراء عليه هو الله ، وأنت إذا أخذت بهذه القاعدة سلمت من إشكال كبير.

    الثاني: وقيل: إن "أظلم" و"أظلم" يشتركان في الأظلمية ويتساويان فيها بالنسبة لغيرهما، وفيه نظر لأنه لا يمكن أن نقول: إنّ من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أنه يساوي من افترى على الله كذباً، أو من منع مساجد الله أن يُذْكر فيها اسمه يساوي من كذب على الله، ونحو ذلك.

    قوله: { بِآياتِ رَبِّهِ } الكونية والشرعية؛ الكونية أن يقال له: إن كسوف الشمس والقمر يخوف الله بهما عباده فيعرض عنها ويقول: أبداً خسوف القمر طبيعي، وكسوف الشمس طبيعي، ولا إنذار ولا نذير، وهذا إعراض، أما الآيات الشرعية فكثير من يذكر بآيات الله ويعرض عنها.

    ( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) يعني نسي ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي والاستكبار وغير ذلك مما يمنعه عن قبول الحق، لأن الإنسان والعياذ بالله كلما أوغل في المعاصي، ازداد بعداً عن الإقبال على الحق كما قال الله : ) فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(الصف: الآية5)، ولذلك يجب أن يُعلم أن من أشد عقوبات الذنوب أن يعاقب الإنسان بمرض القلب والعياذ بالله، فالإنسان إذا عوقب بهلاك حبيب أو فقد محبوب من المال، فهذه عقوبة لا شك، لكن إذا عوقب بانسلاخ القلب فهذه العقوبة أشد ما يكون. يقول ابن القيم :

    [ والله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى طريق العفو والغفران ] [ وإنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن ] هذا هو الذي يخشاه الإنسان العاقل، أما المصائب الأخرى فهي كفارات وربما تزيد العبد إيماناً.

    ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صيرنا.

    ( عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي قلوب من { ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ }، وأعيد ضمير الجمع على مفرد باعتبار المعنى؛ لأن "مَن" سواء كان اسماً موصولاً أو شرطية يجوز في عود الضمير إليها أن يعود على لفظها فيكون مفرداً أو يعود على معناها فيكون مجموعاً أو مثنى حسب السياق، فإذا قلت: "يعجبني من قام" فهنا عاد على اللفظ، وإذا قلت: "يعجبني من قاما" فهنا يعود على المعنى، وكذلك لو قلت: "يعجبني من قاموا" وقد يراعى اللفظ مرة والمعنى مرة أخرى وتعود الضمائر لمراعاة الأمرين في سياق واحد، قال تعالى: { ومن يؤمن بالله وعمل صالحا } فهنا روعي اللفظ، وفي قوله: { يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار } روعي اللفظ أيضاً، وقوله: {خالدين فيها أبدا } روعي فيها المعنى، وفي قوله: { قد أحسن الله له رزقا} روعي اللفظ، كل هذا جاء في سياق واحد: ) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: الآية11)، فروعي اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً ثم اللفظ ثالثاً.

    ( أَكِنَّةً ) أي: أغطية تمنعهم من { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أن يفقهوا القرآن فلا يفهمونه، وفي هذا الحث على فقه القرآن، وأنه ينبغي للإنسان أن يقرأ القرآن ويتعلم معناه، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.

    ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ) أي صمماً. تأمل، والعياذ بالله، القلوب عليها غِطاء فلا تفقه، والآذان عليها صمم فلا تسمع، فلا يسمعون الحق ولا يفهمونه.

    ( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) يعني لو أرشدتهم يا محمد إلى الهدى.

    ( فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً ) أي ما دامت قلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقرٌ لن يهتدوا، فمن أين يأتي الهدى، والآذان لا تسمع الحق والقلوب لا تنقاد للحق والعياذ بالله؟! فإن قال قائل: هل في هذا تيئيس للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه وإن دعا لا يقبل منه أو فيه تسلية له؟

    فالجواب: في هذا تسلية له، وأنهم إذا لم يقبلوا الحق فلا عليك منهم(فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً )

    ***

    )وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (الكهف:58)



    قوله تعالى: { )وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } هذا فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من وجه آخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقول: لماذا لم يعاجلوا بالعقوبة، كيف يكذبونني وأنا رسول الله ولم يعاقبهم؟! ولكن بَيَّن الله له أنه هو {الْغَفُور } أي الذي يستر الذنوب ويتجاوز عنها.

    ( ذُو الرَّحْمَةِ ) أي صاحب الرحمة الذي يلطف بالمذنب. ولهذا قال: { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } يعني لو أراد الله أن يؤاخذ الناس بما كسبوا لعجل لهم العذاب، وقد بين الله عز وجل هذا العذاب في آيات أخرى فقال: )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) (فاطر:45) أي لأهلكهم في الحال، ولكن

    ( يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً )"بل" هذه للإضراب الإبطالي، يعني بل لن يسلموا من العذاب إذا أُخر عنهم، لهم موعد { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) }، أي مكاناً يؤولون إليه، وهذا يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ما يحصل للكفار من القتل على أيدي المؤمنين كما قال عز وجل : )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) (التوبة:15) ، إذاً يحتمل أن يكون المراد ما سيكون عليهم من القتل، والأخذ في الدنيا، أو ما سيكون عليهم يوم القيامة الذي لا مفر منه.

    ***

    )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)



    قوله تعالى: { )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ } أي: قرى الأمم السابقين، قد يقول قائل هنا إشكال: فإن القرى جماد، والجماد لا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلاً: "هذه البيوت عمرناهم" ولكن تقول: "هذه البيوت عمرناها"، فلماذا قال: "أهلكناهم"؟

    فالجواب: قال هذا؛ لأن الذي يهلك هم أهل القرى، وفي هذا دليل واضح على أن القرى قد يراد بها أهلها، وقد يراد بها البناء المجتمع، فالقرية أو القرى تارة يراد بها أهلها وتارة يراد بها المساكن المجتمعة، قال تعالى: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:59) ، فالمراد بالقرى هنا أهلها، وقال تعالى: ) إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِالْقَرْيَة)(العنكبوت: الآية31)والمراد بالقرية هنا المساكن المجتمعة.

    ( لَمَّا ظَلَمُوا ) المراد بالظلم هنا الكفر، أي: حين كفروا. { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً } يعني جعلنا لإهلاكهم موعداً، والله يفعل ما يشاء، إن شاء عجَّل العقوبة وإن شاء أخر، لكن إذا جاء الموعد لا يتأخر: ولهذا قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: )يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4) ، فهو أجل معين عند الله في الوقت الذي تقتضيه حكمته.

    ***

    )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (الكهف:60)



    قوله تعالىSmileوَإِذْ } مفعول لفعل محذوف والتقدير "اذكر إذ قال"، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه؛ أي: غلامه يوشع بن نون، وكان موسى - عليه الصلاة والسلام - ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ قال موسى: "لا"، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله، فقال الله عز وجل إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل[37] وسار هو وفتاه يوشع بن نون، جاء ذلك في البخاري[38] ، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً، كان الحوت في المكتل، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر.

    ( لا أَبْرَحُ )أي لا أزال، والخبر محذوف والتقدير "لا أزال أسير".

    ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قيل: إنه مكان الله أعلم به، لكن موسى يعلم، وقيل: إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض، وكان فيما سبق بينهما أرض، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك.

    ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أو هنا للتنويع، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي: دهوراً طويلة، وقيل: { أَوْ } بمعنى "إلاَّ" أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلاَّ أن { أَمْضِيَ حُقُباً) أي: دهوراً طويلة قبل أن أبلغه، لكن الوجه الأول أسد، فتهيئَا لذلك وسارا، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين، فسار موسى إليه طلباً للعلم.



    )فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (الكهف:61)



    قوله تعالى: {)فَلَمَّا بَلَغَا } أي: موسى وفتاه.

    ( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) أي: بين البحرين.

    ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع، ولهذا يخاطب الله عز وجل بني إسرائيل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: } )وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:50) )وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة)(البقرة: الآية55)، مع أنهم ما قالوا هذا؛ لكن قاله أجدادهم.

    ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) نسيان ذهول وليس نسيان ترك، وهذا من حكمة الله عز وجل ، أن الله أنساهما ذلك لحكمة، وهذا الحوت قد جعله الله سبحانه وتعالى علامة لموسى، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر، وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً، لكنه أي: الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره، هذا الحوت - سبحان الله - خرج من المكتل، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه.

    ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.

    ( سَرَباً )أي مثل السرب، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء، وهذا من آيات الله، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه، لكن هذا الحوت من آيات الله، أولاً: أنه قد مات، وأنهما يقتاتان منه، ثم صار حياً ودخل البحر ثانياً: أنه صار طريقه على هذا الوجه، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى.

    ***

    )فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً) (الكهف:62)



    قوله تعالى: {)فَلَمَّا جَاوَزَا } الفاعل موسى وفتاه {) جَاوَزَا } يعني تعديا ذلك المكان، قال موسى لفتاه:

    { آتِنَا غَدَاءَنَا } وكان ذلك؛ لأن الغداء هو الطعام الذي يؤكل في الغداة.

    ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ) أي تعباً.

    وقوله: { مِنْ سَفَرِنَا هَذَا } ليس المراد من حين ابتداء السفر ولكن من حين ما فارقا الصخرة، ولذلك طلب الغداء، قال أهل العلم وهذا من آيات الله فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر، تعبا سريعاً من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان.

    ***

    )قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) (الكهف:63)



    قوله تعالى: { )قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } أي: قال الفتى لموسى:

    { أَرَأَيْتَ } أي ما حصل حين لجأنا إلى الصخرة، والمراد بالاستفهام التعجب أو تعجيب موسى.

    ( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) يعني نسيت أن أتفقده أو أسعى في شأنه أو أذكره لك، وإلا فالحوت معروف كان في المكتل.

    ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) قوله: { أَنْ أَذْكُرَهُ } هذه بدل من الهاء في "أنسانيه"، يعني ما أنساني ذكره إلا الشيطان.

    ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ) أي اتخذ الفتى أو موسى سبيل الحوت في البحر.

    ( عَجَباً ) يعني محل عجب، وهو محل عجب، ماء سيال يمر به هذا الحوت، ويكون طريقه سرباً، فكان هذا الطريق للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، ولنا أيضاً عجب؛ لأن الماء عادة يتلاءم على ما يمر به لكن هذا الحوت – بإذن الله – لم يتلاءم الماء عليه.

    ***

    )قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) (الكهف:64)



    قوله تعالى: { )قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي قال موسى عليه الصلاة والسلام: {) ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي: ما كنا نطلب؛ لأن الله أخبره بأنه إذا فقد الحوت، فذاك محل اتفاقه مع الخضر.

    ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) يعني رجعا بعد أن أخذا مسافة تعبا فيها، ارتدا على آثارهما، يعني يقصان أثرهما؛ لئلا يضيع عنهما المحل الذي كانا قد أويا إليه.

    ***

    )فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65)



    قوله تعالى: { )فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } وهو الخضر كما صحَّ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .[39]

    وقوله: {) عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا } هل هو عبدٌ من عباد الله الصالحين أو من الأولياء الذين لهم كرامات أم من الأنبياء الموحى إليهم؟ كل ذلك ممكن، لكن النصوص تدل على أنه ليس برسول ولا نبي، إنما هو عبد صالح أعطاه الله تعالى كرامات؛ ليبين الله بذلك أن موسى لا يحيط بكل شيء علماً وأنه يفوته من العلم شيء كثير.

    ( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) أي: أن الله جلَّ وعلا جعله من أوليائه برحمته إياه.

    ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) يعني علماً لا يطَّلِع عليه الناس، وهو علم الغيب في هذه القصة المعينة وليس علم نبوة ولكنه علم خاص؛ لأن هذا العلم الذي اطَّلع عليه الخضر لا يمكن إدراكه وليس شيئاً مبنياً على المحسوس، فيبنى المستقبل على الحاضر، بل شيء من الغائب، فأطلعه الله تعالى على معلومات لا يطَّلع عليها البشر.

    ***

    )قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف:66)



    قوله تعالى: { )قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } أي قال موسى للخضر: هل أتبعك، وهذا عرض لطيف وتواضع، وتأمّل هذا الأدب من موسى - عليه الصلاة والسلام - مع أن موسى أفضل منه وكان عند الله وجيهاً، ومع ذلك يتلطف معه لأنه سوف يأخذ منه علماً لا يعلمه موسى، وفي هذا دليل أنَّ على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه ومع أُستاذه وأن يُعامله بالإكرام، ثم بين موسى أنه لا يريد أن يَتَّبِعَه ليأكل من أكله أو يشرب من شربه، ولكن { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } ولا شك أن الخضر سيفرح بمن يأخذ عنه العلم، وكل إنسان أعطاه الله علماً ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم، لأن العلم الذي يُؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما جاء في الحديث الصحيح: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِية أوَ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" .[40]

    فقال له الخضر:



    )قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (الكهف:68)

    ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) وبيّن له عذره في قوله هذا، فقال: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }، وأين الدليل للخضر أن موسى لم يحط بذلك خُبرا؟

    الجواب: لأنه قال: { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ } وهذا يدل على أنه لا علم له فيما عند الخضر.

    فماذا قال موسى ؟

    ***

    )قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (الكهف:69)



    ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ) هذا الذي قاله موسى قاله فيما يعتقده في نفسه في تلك الساعة من أنه سيصبر، لكنه علَّقه بمشيئة الله لئلَّا يكون ذلك اعتزازاً بنفسه وإعجاباً بها.

    وقوله: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ } هو كقول إسماعيل بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما قال له أبوه: ) إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: الآية102)، وموسى قال للخضر: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ) }، وأيضاً أصبر على ما تفعل وأمتثل ما به تأمر { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) }، وعده بشيئين:

    1 - الصبر على ما يفعل.

    2 - الائتمار بما يأمر، والانتهاء عما ينهى.

    قال الخضر:

    ***

    )قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (الكهف:70)



    قوله تعالى: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي } ومعلوم أنه سيتبعه.

    ( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ) أي عن شيء مما أفعله.

    ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (حَتَّى ) هنا للغاية، يعني إلى أن { أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي: إلى أن أذكر لك السبب، وهذا توجيه من معلم لمن يتعلم منه، إلاَّ يتعجل في الرد على معلمه، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكراً، وهذا من آداب المتعلم إلاَّ يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر.

    ***

    )فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (الكهف:71)



    قوله تعالى: {)فَانْطَلَقَا } الفاعل موسى والخضر، وسكت عن الفتى، فهل الفتى تأخر عن الركوب في السفينة، أم أنه ركب ولكن لما كان تابعاً لم يكن له ذكر؟

    الجواب: الذي يظهر - والله أعلم - أنه كان تابعاً، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة، والأصل هو موسى طوي ذكره، وهو أيضاً تابع.

    ( حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ) مرَّت سفينة، وهما يمشيان على شاطئ البحر، فركبا فيها.

    (أَخَرَقْتَهَا ) أي: الخضر بقلع إحدى خشبها الذي يدخل منه الماء، فقال له موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهذا إنكار من موسى على الخضر مع أنه قال له: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً } لكنه لم يصبر؛ لأن هذه مشكلتها عظيمة، سفينة في البحر يخرقها فتغرق! واللام في قوله: { لِتُغْرِقَ } ليست للتعليل ولكنها للعاقبة، يعني أنك إذا خرقتها غرق أهلها، وإلاَّ لا شك أن موسى عليه السلام لا يدري ما غرض الخضر، ولا شك أيضاً أنه يدري أنه لا يريد أن يغرق أهلها، لأنه لو أراد أن يغرق أهلها لكان أول من يغرق هو وموسى، لكن اللام هنا للعاقبة ولام العاقبة ترد في غير موضع في القرآن، مثل قول الله تعالى: )فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)(القصص: الآيةCoolلو سألنا أي إنسان: هل آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً؟

    الجواب: أبداً، ولكن هذه للعاقبة.

    ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ) يعني شيئاً عظيماً، يعني كان موسى شديداً قوياً في ذات الله، فهو أنكر عليه، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق، وزاده توبيخاً في قوله: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }، والجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات:

    1 - اللام.

    2 - قد.

    3 - القسم المقدر الذي تدل عليه اللام، والإمر بكسر الهمزة الشيء العظيم، ومنه قول أبي سفيان لهرقل لما سأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له حاله وصفاته وما كان من أخلاقه، فلما انصرف مع قومه، قال أبو سفيان: "لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كَبْشَة إنه ليخافه مَلِكُ بني الأصفر"[41] ، يعني بابن أبي كبشة الرسول صلى الله عليه وسلم. و: "أمِرَ أمرُه" يعني عَظُم أمره.

    )قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:72)



    فاعتذر موسى:

    )قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (الكهف:73)



    وسبب نسيان موسى؛ أن الأمر عظيم اندهش له: أن تغرق السفينة وهم على ظهرها، وهذه توجب أن الإنسان ينسى ما سبق من شدة وقع ذلك في النفس.

    وقوله: { بِمَا نَسِيتُ } أي بنسياني، ولهذا نقول في إعراب "ما" إنها مصدرية، أي: بنسياني ذلك وهو قولي: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً)

    ( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ) يعني لا تثقل علي وتعسر علي الأمور؛ وكأن هذا والله أعلم توطئة لما يأتي بعده.

    ***

    )فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)

    (الكهف:74)



    قوله تعالى: { )فَانْطَلَقَا } بعد أن أرست السفينة على الميناء. { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ } ولم يقل "قتله"، وفي السفينة قال: { أَخَرَقْتَهَا } ولم يقل: "فخرقها"، يعني كأن شيئاً حصل قبل القتل فقتله .

    ( غُلاماً) الغلام هو الصغير، ولم يصبر موسى . { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } وفي قراءة "زاكية" لأنه غلام صغير، والغلام الصغير تكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، إذاً فهو زكي لأنه صغير ولا تكتب عليه السيئات.

    ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يعني أنه لم يقتل أحداً حتى تقتله، ولكن لو أنه قتل هل يُقتل أو لا؟

    الجواب: في شريعتنا لا يقتل لأنه غير مُكلَّف ولا عَمْد له، على أنه يحتمل أن يكون هذا الغلام بالغاً وسمي بالغلام لقرب بلوغه وحينئذٍ يزول الإشكال.

    ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) هذه العبارة أشد من العبارة الأولى. في الأولى قال: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمرا }، ولكن هنا قال: { نُكْراً } أي منكراً عظيماً، والفرق بين هذا وهذا، أن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل، لم تغرق السفينة، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال.

    فقال الخضر:

    ***

    )قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:75)



    قوله تعالى: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } هنا فيها لوم أشد على موسى، في الأولى قال: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ } وفي الثانية قال: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ } يعني كأنك لم تفهم ولن تفهم، ولذلك كان الناس يفرقون بين الجملتين، فلو أنك كلمت شخصاً بشيء وخالفك فتقول في الأول: "ألم أقل إنك"، وفي الثاني تقول: "ألم أقل لك" يعني أن الخطاب ورد عليك وروداً لا خفاء فيه، ومع ذلك خالفت، فكان قول الخضر لموسى في الثانية أشد: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ }، فقال له موسى لما رأى أنه لا عذر له:

    ***

    )قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (الكهف:76)



    قوله تعالى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي } أي امنعني من صحبتك، وفي قول موسى:

    (فَلا تُصَاحِبْنِي) إشارة إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - يرى أنه أعلى منه منْزِلة وإلاَّ لقال: "إن سألتك عن شيء بعدها فلا أصاحبك".

    ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ) يعني أنك وصلت إلى حال تعذر فيها، لأنه أنكر عليه مرتين مع أن موسى عليه السلام التزم إلاَّ يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً.

    ***

    )فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (الكهف:77)



    قوله تعالى: {)فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } ولم يعين الله عز وجل القرية فلا حاجة إلى أن نبحث عن هذه القرية، بل نقول: قرية أبهمها الله فنبهمها.

    ( اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ) أي: طلبا من أهلها طعاماً.

    ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) } ولا شك أن هذا خلاف الكرم، وهو نقص في الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"[42] .

    (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) أي: أنه مائل يريد أن يسقط، فإن قيل: هل للجدار إرادة؟

    فالجواب: نعم له إرادة، فإن ميله يدل على إرادة السقوط، ولا تتعجب إن كان للجماد إرادة فها هو "أُحُد" قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه: "يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"[43] والمحبة وصف زائد على الإرادة، أما قول بعض الناس الذين يجيزون المجاز في القرآن: إنَّ هذا كناية وأنه ليس للجماد إرادة فلا وجه له.

    (فَأَقَامَهُ) أي أقامه الخضر، لكن كيف أقامه؟ الله أعلم، قد يكون أقامه بيده، وأن الله أعطاه قوة فاستقام الجدار، وقد يكون بناه البناء المعتاد، المهم أنه أقامه، ولم يبين الله تعالى طول الجدار ولا مسافته ولا نوعه فلا حاجة أن نتكلف معرفة ذلك.

    ()قَالَ) أي: موسى: { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ولم ينكر عليه أن يبنيه ولا قال: كيف تبنيه وقد أبوا أن يضيفونا؟! بل قال: { لَوْ شِئْتَ } وهذا لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف {{ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي عِوَضاً عن بنائه.

    ***

    )قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:78)



    قوله تعالى: )قَالَ } أي قال الخضر لموسى: { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي انتهى ما بيني وبينك فلا صحبة. { سَأُنَبِّئُكَ } أي سأخبرك عن قُربٍ قبل المفارقة { بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً }، وإنما قلنا: "سأخبرك عن قرب" لأن السين تدل على القرب بخلاف سوف، وهي أيضاً تفيد مع القرب التحقيق.

    (بِتَأْوِيل ) أي بتفسيره وبيان وجهه.

    ***



    )أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف:79)



    قوله تعالى: { )أَمَّا السَّفِينَةُ } "ال" في السفينة هي للعهد الذكري أي: السفينة التي خرقتها.

    ( فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)أي: أنهم يطلبون الرزق فيها إما بتأجيرها، أو صيد السمك عليها، ونحوه وهم مساكين جمع، والجمع أقله ثلاثة، وليس ضرورياً أن نعرف عددهم.

    ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) يعني أن أجعل فيها عيباً، لماذا؟ قال:

    ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا)ً فأردت أن أعيبها حتى إذا مرت بهذا الملك، قال: هذه سفينة معيبة لا حاجة لي فيها؛ لأنه لا يأخذ إلا السفن الصالحة الجيدة، أما هذه فلا حاجة له فيها، فصار فعل الخضر من باب دفع أشد الضررين بأخفهما، ومنه يؤخذ فائدة عظيمة وهي إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، والأطباء يعملون به، تجده يأخذ من الفخذ قطعة فيصلح بها عيباً في الوجه، أو في الرأس، أو ما شابه ذلك، وأخذ منه العلماء - رحمهم الله - أن الوقف إذا دَمَر وخرب فلا بأس أن يباع بعضه ويصرف ثمنه في إصلاح باقيه، ثم بين الخضر حال الغلام فقال:



    )وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً) (الكهف:80)



    قوله تعالى: { أَبَوَاهُ } أي: أبوه وأمه { مُؤْمِنَيْنِ } أي: وهو كافر.

    ( فَخَشِينَا ) أي خفنا، والخشية في الأصل خوف مع علم، وأتي بضمير الجمع للتعظيم.

    ( أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ) يعني يحملهما على الطغيان والكفر، إما من محبتهما إياه، أو لغير ذلك من الأسباب، وإلا فإن الغالب أن الوالد يؤثِّر على ولده ولكن قد يؤثر الولد على الوالد كما أن الغالب أن الزوج يؤثر على زوجته، ولكن قد تؤثر الزوجة على زوجها.

    ***









    (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف:81)



    قوله تعالى: يعني أنَّا إذا قتلناه؛ فإن الله خير وأبقى؛ نؤمل منه تعالى { أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زكاة } أي في الدين، { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي في الصلة، يعني أنه أراد أن الله يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين، وأوصل في صلة الرحم، ويؤخذ من ذلك أنه يقتل الكافر خوفاً من أن ينشر كفره في الناس.

    ***

    )وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف:82)



    قوله تعالى: { لِغُلامَيْنِ } يعني صغيرين.

    ( يَتِيمَيْنِ ) قد مات أبوهما.

    ( فِي الْمَدِينَةِ ) أي: القرية التي أتياها.

    ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ) أي: كان تحت الجدار مال مدفون لهما.

    ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) فكان من شكر الله - - لهذا الأب الصالح أن يكون رؤوفاً بأبنائه، وهذا من بركة الصلاح في الآباء أن يحفظ الله الأبناء.

    ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) أي: أراد الله { أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي: أن يبلغا ويكبرا حتى يصلا إلى سن الرشد، وهو أربعون سنة عند كثير من العلماء، وهنا ما قال "فأردنا" ولا قال "فأردت"، بل قال: { فَأَرَادَ رَبُّكَ }؛ لأن بقاء الغلامين حتى يبلغا أشدهما ليس للخضر فيه أي قدرة، لكن الخشية - خشية أن يرهق الغلام أبويه بالكفر - تقع من الخضر وكذلك إرادة عيب السفينة.

    ( وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ) حتى لا يبقى تحت الجدار، ولو

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء نوفمبر 26, 2024 9:46 am